ستظل زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل أهم انعطاف في التاريخ العربي المعاصر؛ إذ كانت مفاجأة للجميع وترتب عليها نتائج خطيرة على مجمل الصراع العربي ـ الإسرائيلي؛ إذ شقت هذه الزيارة الصف العربي في مواجهة إسرائيل بين معسكري: السلام، والصمود، وخرجت مصر من الجبهة العربية بمعاهدة سلام منفردة وقّعتها مع إسرائيل تحت الرعاية الأمريكية حصلت بموجبها على سيناء. أما العرب فلم يمتلكوا غير الصياح والضجيج ليعبروا به عن رفضهم لهذه الزيارة، ثم مرت السنون وتهاوت جبهة الصمود، وسارع المعارضون للسلام مع إسرائيل إلى مدريد وأوسلو ووادي عربة، بعدما سبقهم السادات إلى ذلك في القدس.
ورغم ذلك فما زالت مشكلة الشرق الأوسط قائمة ومشتعلة؛ لأن معاهدات السلام التي وقعت مع إسرائيل افتقدت إلى العدل وعودة الحقوق المغتصبة إلى أصحابها، وكان انطلاقها الأول من المصلحة الخاصة لكل دولة أو زعيم، وليس من المصلحة العربية الشاملة.
السلام.. ذلك الحلم الضائع
كان الأمريكيون يعلمون أن عودة سيناء إلى مصر ليست مشكلة في سبيل تحقيق سلام بين مصر وإسرائيل. ومن الناحية الأخرى فإن إسرائيل لم تكن مستعدة لإعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا، أو إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس. وكان كارتر الذي صعد إلى رئاسة الولايات المتحدة في (1396 هـ= 1976م) يرغب في تحقيق إنجاز سياسي في الخارج لتعزيز مركزه في الداخل، مع إدراكه أن تحقيق السلام في الشرق الأوسط لن يكون إلا بحل المشكلة الفلسطينية، وهذا يعني اعتراف واشنطن بمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي خطوة خطيرة في ظل تعهد الولايات المتحدة لإسرائيل بألا تتفاوض مع المنظمة؛ حتى تعترف بحق إسرائيل في الوجود.
وفي أثناء زيارة السادات لواشنطن في (ربيع الآخر 1397هـ= إبريل 1977م) اقترح عليه كارتر تطبيع العلاقات مع إسرائيل في حالة انسحابها، ولم يمض شهران على هذه الزيارة حتى صعد مناحيم بيجن –زعيم حزب الليكود- ليتولى رئاسة الوزراء.
وقد شهد عام (1398هـ= 1977م] جهودًا دولية لعقد مؤتمر دولي للسلام في جنيف، فأعلن السوفيت والأمريكيون بيانًا مشتركًا لعقد المؤتمر وبمشاركة كافة الأطراف في النزاع، إلا أن إسرائيل استطاعت إفراغ هذا البيان من مضمونه بورقة العمل الأمريكية ـ الإسرائيلية. وأبلغ كارتر وزير الخارجية المصري "إسماعيل فهمي" أنه لن يستطيع ممارسة أية ضغوط كبيرة على إسرائيل؛ لأن ذلك سيكون انتحارًا سياسيًا له، وأبلغ إسماعيل هذه الرسالة إلى السادات، إلا أنها لم تغير من اعتقاده الثابت شيئًا في أن 99.9% من التسوية النهائية يكمن في أيدي الولايات المتحدة.
كان اعتراف الرئيس كارتر بعجزه عن مواجهة إسرائيل والضغط عليها يحتم على القيادة المصرية ألا تتفاوض بمفردها مع إسرائيل والولايات المتحدة أو تعتمد كليًا على الأمريكيين، وإنما الواجب عليها توسيع نطاق السلام، وضمان المساندة العربية في مواجهة إسرائيل، وتشجيع الاتحاد السوفيتي ليلعب دورًا في الحل الشامل لأزمة الشرق أوسط.
جنيف.. والاتصالات السرية
سبقت زيارة السادات للقدس مجموعة من الاتصالات السرية، حيث تم إعداد لقاء سري بين مصر وإسرائيل في المغرب تحت رعاية الملك الحسن الثاني، التقى فيه "موشى ديان" وزير الخارجية الإسرائيلي، و"حسن التهامي" نائب رئيس الوزراء برئاسة الجمهورية. وفي أعقاب تلك الخطوة التمهيدية قام السادات بزيارة لعدد من الدول ومن بينها رومانيا، وتحدث مع رئيسها شاوشيسكو بشأن مدى جدية بيجن ورغبته في السلام، فأكد له شاوشيسكو أن بيجن رجل قوي وراغب في تحقيق السلام.
وبعد هذا اللقاء استقرت فكرة الذهاب للقدس في نفس السادات، وأخبر وزير خارجيته الذي رفض هذا الأمر وقال له: "لن نستطيع التقهقر إذا ما ذهبنا إلى القدس، بل إننا سنكون في مركز حرج يمنعنا من المناورة"، كما أن سيناء لم ولن تكون في يوم ما مشكلة، وأخبره أنه بذهابه إلى القدس فإنه يلعب بجميع أوراقه دون أن يجني شيئًا، وأنه سيخسر الدول العربية، وأنه سيُجبر على تقديم بعض التنازلات الأساسية، ونصحه ألا يعطي إسرائيل فرصة لعزل مصر عن العالم العربي؛ لأن هذه الحالة تمكّن إسرائيل من إملاء شروطها على مصر. واقترح فهمي عليه عقد مؤتمر دولي للسلام في القدس الشرقية تحضره الأمم المتحدة والدول الكبرى لوضع فلسفة أساسية لمعاهدة السلام، مع استمرار مفاوضات السلام في جنيف.
من مجلس الشعب إلى الكنيست!
أبدى السادات اقتناعًا بآراء وزير خارجيته بعد مناقشات استمرت ثماني ساعات دون توقف، ثم طلب منه العمل على إيجاد جبهة عربية موحدة في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي كان سيعقد في تونس في (ذي الحجة = نوفمبر)، ووافق على زيارة ياسر عرفات للقاهرة وحضوره افتتاح دورة مجلس الشعب في (ذي الحجة 1397هـ= ديسمبر 1977م)، وفي هذه الجلسة الشهيرة أعلن السادات استعداده للذهاب للقدس بل والكنيست الإسرائيلي، وقال: "ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم". وانهالت عاصفة من التصفيق من أعضاء المجلس، ولم يكن هذا الهتاف والتصفيف يعني أنهم يعتقدون أنه يريد الذهاب فعلا إلى القدس.
وبعد الخطاب أكد السادات لوزير خارجيته أن تلك المقولة زلّة لسان، وأمر الرقابة أن تمنعها، فحذفت تلك العبارة من خطابه في الصحف. وبعد أيام تم الإعلان عن نية السادات في الذهاب إلى القدس وإلقاء خطاب أمام الكنيست وسط دهشة واستغراب كبيرين. ثم قرر الذهاب إلى دمشق في (5 من ذي الحجة 1397هـ= 16 من نوفمبر 1977م)، والتقى بالرئيس السوري حافظ الأسد الذي حذره من عواقب تلك الزيارة، واعتبرها نكسة للعرب، وسينجم عنها عدم توازن إستراتيجي بين العرب وإسرائيل يجعل إسرائيل تضرب الأقطار العربية التي لا دفاع لها واحدا بعد الآخر. وبعد مناقشات طويلة عقيمة لمدة سبع ساعات عاد السادات إلى القاهرة مقتنعًا بنجاح مبادرته في حل مشاكل مصر الداخلية والخارجية؛ فاستقال وزير الخارجية "إسماعيل فهمي"، وتم تعيين "محمد رياض" وزيرًا مؤقتًا للخارجية، إلا أنه استقال بعد ست دقائق من تعيينه، وخلقت تلك الاستقالات تحديًا كبيرًا للسادات.
رحب بيجن والأمريكيون بزيارة السادات للقدس، وتحدد موعد هذه الزيارة بعد غروب يوم السبت الموافق (8 من ذي الحجة 1397هـ= 19 نوفمبر 1977م). وعشية الزيارة أعلن بيجن سياسة حكومته وهي أن إسرائيل لا يمكن أن تعود إلى حدود عام (1387 هـ= 1967م)، كما أنها لن تعترف بالدولة الفلسطينية، ولن تقبل بإجراء اتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يثن هذا الإعلان السادات عن القيام برحلته، وقد اتخذ السادات قرار ذهابه إلى القدس بصورة انفرادية، واعترف كثير من المسئولين المصريين بعدم معرفتهم بالقرار قبل إعلانه، بل وصل إلى حد عدم التصديق بهذا الأمر.
خطاب الكنيست.. لغة عربية
ألقى السادات خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي في (9 من ذي الحجة 1697هـ= 20 من نوفمبر 1977م). وشدد في هذا الخطاب على أن فكرة السلام بينه وبين إسرائيل ليست جديدة، وأنه يستهدف السلام الشامل، وأقر أنه لم يتشاور مع أحد من الرؤساء العرب في شأن هذه الزيارة، واستخدم بعض العبارات العاطفية التي لا تصلح للتأثير في المجتمع الإسرائيلي، مثل: الإشارة إلى أن إبراهيم (عليه السلام) هو جدّ العرب واليهود، واقتران زيارته بعيد الأضحى.
ولم يخرج السادات في خطابه هذا عن الموقف العربي الجماعي، وحاول إظهار نفسه أمام الرأي العام العربي أنه أفضل محام للقضية العربية، غير أن عرضه المطالب العربية كاملة لم يكن يستهدف خلق مركز تفاوضي؛ حيث إن الموقف لا يتطلب مثل هذا الأسلوب؛ لأن التنازلات التي قدمت بعد ذلك كانت كبيرة.
وظن السادات أن خطوته ستحدث انقسامًا في إسرائيل فتنشأ حركة قوية تعتنق مبادئ السلام، وتنجذب أطراف عربية إلى فكرة الاتصال المباشر بإسرائيل، فزاد ذلك من تفاؤله، وبعد عودته من القدس قال للصحفيين: إن قضية الصراع العربي الإسرائيلي التي عاشوا عليها سنين حُلّت، وعليهم أن يبحثوا عن موضوع آخر ليكتبوا فيه. وعندما سئل عن القدس قال: "القدس في جيبي". أما إسرائيل، فكانت صريحة جدًا في هذا الأمر، وأعلنت أن القدس لم تكن موضوعًا للمفاوضات، ولن تعود مدينة مقسمة، وسوف تكون العاصمة الأبدية لإسرائيل.
ميناهاوس والإسماعيلية.. الحقيقة واحدة
لم يفقد السادات الأمل في إشراك أطراف عربية في مبادرته السلمية، فوجه الدعوى لاجتماع أطراف مؤتمر جنيف لعقد مؤتمر في فندق ميناهاوس بالقاهرة، ولم يحضر هذا المؤتمر سوى إسرائيل والولايات المتحدة والأمم المتحدة كمراقب، ورُفع العلم الفلسطيني على مقر الاجتماع بالفندق؛ فاحتج الإسرائيليون وهددوا بمقاطعة المؤتمر؛ فأُنزل العلم، وأصبح السادات معزولا بالكامل عن العالم العربي، وأصبحت قضية السلام مسألة شخصية إذا نجح فيها استقر له الحكم؛ لذلك استخدم آلة الإعلام لإقناع المصريين بأنه يسير في الطريق الأفضل، وبمزايا السلام، وجسامة التضحيات التي قدمتها مصر للعرب.
وحتى لا تفقد المبادرة زخمها دعا السادات بيجن لزيارة مصر، وعقد مؤتمر قمة في الإسماعيلية. يقول وزير الخارجية المصري "محمد إبراهيم كامل" بأنه ذهل أمام تخاذل السادات أمام بيجن الذي تكلم عن حق إسرائيل في الاحتفاظ بالأراضي المحتلة، وعدوان مصر على إسرائيل. وقال بيجن بحدة شديدة: "وقد كان في وسعي أن أبدأ المباحثات بالمطالبات باقتسام سيناء بيننا وبينكم، ولكني لم أفعل".
بدأ حلم السلام يتبدد لدى السادات بعد الإسماعيلية، وذهب عنه تفاؤله وقال للصحفيين: "يبدو أن إسرائيل لم تفهم أو لا تريد أن تفهم أنها حصلت من زيارة القدس على أكثر مما كانت تحلم به عند إنشائها".
وبعد اجتماع الإسماعيلية بشهر واحد اجتمعت اللجنة السياسية من وزراء خارجية مصر وإسرائيل والولايات المتحدة في القدس. وفي أثناء انعقاد تلك اللجنة شرعت إسرائيل في بناء مستوطنات جديدة في سيناء، لاستخدامها كورقة مساومة على مصر. وأراد وزير الخارجية المصري الانسحاب والعودة إلى القاهرة فطلب منه السادات التحلّي بالصبر، حتى نفد صبر السادات واقتنع بعدم جدوى المباحثات، فلم يكن بيجن مستعدًا لقبول تنازلات، وقال وزير الخارجية الإسرائيلي "موشى ديان": "إنه من الأفضل لإسرائيل أن تفشل مبادرة السلام على أن تفقد إسرائيل مقومات أمنها".
وعرض الإسرائيليون على مصر ترك قطاع غزة للإدارة المصرية مقابل تعهد بعدم اتخاذها منطلقًا للأعمال الفدائية، وكان هدفهم من ذلك عدم إثارة موضوع الضفة الغربية، وبذلك تكون إسرائيل حققت هدفًا جوهريًا من أهداف المباحثات وهو التركيز على مسألة الانسحاب من سيناء، بما يؤدي إلى صلح منفرد مع مصر، وتوسيع الهوة بين السادات والفلسطينيين، وهو ما حدث بالفعل عقب اغتيال فلسطينيين لوزير الثقافة المصري "يوسف السباعي" في قبرص.
ورفض السادات إدانة الغزو الإسرائيلي للبنان في (ربيع آخر 1398هـ= مارس 1978م) بثلاثين ألف جندي، متذرعة بعملية فدائية نفذها فدائيون فلسطينيون قُتل فيها 35 إسرائيليا. ويحكي وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل أنه اتصل بالسادات صباح اليوم التالي للغزو ليطلعه على بيان يدين إسرائيل، فسأله السادات: "هل أعطوهم العلقة ولا لسه؟" وكانت إسرائيل أبلغته ليلة الغزو بنيتها في تأديب الفدائيين.
كامب ديفيد.. ومذبحة التنازلات
اجتمع مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة (ربيع الآخر 1398هـ= مارس 1978م) بقصد تنقية الأجواء العربية، ووردت أنباء أثناء الاجتماع عن زيارة "عزرا فايتسمان" وزير الدفاع الإسرائيلي للقاهرة بناء على دعوة شخصية من السادات، وفُهم من ذلك أن السادات يتعمّد إحباط هذه المساعي العربية.
وعلى الجانب الآخر أدى التصلب الإسرائيلي إلى إحساسه بالفشل في مبادرته؛ فأنشأ الحزب الوطني الديمقراطي وتولى رئاسته، وزادت قبضته العنيفة على القوى المعارضة لتوجهاته، ثم لجأ إلى الاستفتاء الشعبي على شخصه، ولم ترغب واشنطن أن يتأزم موقف صديقها الجديد في القاهرة بعد فشل مباحثات قلعة ليذر بإنجلترا، وظهور أصوات في مجلس الوزراء المصري تنادي بالاتصال بالأطراف العربية بدلا من التركيز على الاتصالات الثنائية مع إسرائيل، وترددت مصر بين المضي في المبادرة والعودة لمكانها الطبيعي في الصف العربي.. وعندها وضع كارتر ثقله لكيلا تعود مصر إلى الصف العربي، ودعا السادات وبيجن إلى اجتماعات في كامب ديفيد بدأت في (شوال 1398هـ= 6 سبتمبر 1978م)، واستمرت (12) يومًا.
ذهب السادات إلى كامب ديفيد وهو لا يريد أن يساوم، وإنما ردد مشروع قرار مجلس الأمن رقم 242 كأساس للحل. أما كارتر والإسرائيليون فكانوا مقتنعين أن السادات لن يوافق قط على أي وجود إسرائيلي في سيناء، كما أنه لن يصر على موضوع الدولة الفلسطينية، وأدرك الأمريكيون أن السادات لا يمكنه تحمل الفشل على عكس بيجن، فإن الفشل يعني بقاء الوضع الراهن، وبقاء الوجود الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة؛ لذلك كان الموقف الإسرائيلي متصلبًا متشددًا يرفض التنازل، وهو ما جعل السادات يعلن لمرافقيه أنه قرر الانسحاب من كامب ديفيد، فنصحه وزير الخارجية الأمريكي "سايروس فانس" أن يلتقي بكارتر على انفراد، واجتمع الرئيسان نصف ساعة خرج بعدها السادات ليقول للوفد المصري: "سأوقّع على أي شيء يقترحه الرئيس كارتر دون أن أقرأه". وحاول وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل إقناعه بعدم قبول المشروع الأمريكي؛ لأنه هو ذاته مشروع إسرائيل، لكنه لم يجد منه أذنُا صاغية، فقدم استقالته في كامب ديفيد فقبلها السادات، وطلب منه تأجيلها لحين العودة إلى القاهرة.
وفي (15 من شوال هـ= 17 من سبتمبر) تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد التي أسماها محمد إبراهيم كامل "مذبحة التنازلات" فلم تشر الاتفاقية للقدس، وتم حذف النص القائل بتحريم إنشاء مستوطنات يهودية، وطلبت إسرائيل وقتًا طويلا للانسحاب من سيناء حتى تبني الولايات المتحدة مطارات وقواعد عسكرية في النقب بدلا من التي تركتها في سيناء، كما أنها وضعت إطارًا عامًا دون النص على التفاصيل.
وساد شعور مبالغ فيه بالسعادة، رغم أن الاتفاقية وضعت شروطًا على سيادة مصر على سيناء بعد عودتها إليها؛ حيث وقّع السادات على اتفاقية تضع شروطًا قاسية على مدى تحرك الجيش المصري وقواته في سيناء، فقصرت مثلا استخدام المطارات الجوية التي يخليها الإسرائيليون قرب العريش وشرم الشيخ على الأغراض المدنية فقط.
كان بيجن خلال تلك المباحثات يعتذر للأمريكيين عن عجزه عن الموافقة على بعض الأمور؛ لأنه لا يستطيع تجاوز الكنيست، أما السادات فكان يغفل تمامًا الإشارة إلى مجلس الشعب أو المعارضة أو حتى أعضاء الوفد المصري المرافق له، وحينما اعترض بعض أعضاء مجلس الشعب على الاتفاقية قام بحل المجلس، ولم يتح للمعارضين العودة إليه ثانية. أما بيجن فاستغل الأيام التي تلت كامب ديفيد مباشرة للإعلان عن عزمه على إقامة مستوطنات في الأراضي المحتلة، ثم بلغت ذروة تصريحاته في عام (1402هـ= 1981م) عندما أقسم أنه لن يترك أي جزء من الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والقدس.
ودخلت مصر في محادثات بعد كامب ديفيد لتصوغ روابط سلام محكمة مع إسرائيل، في ظل إصرار من بيجن لم يتزحزح عن المطالبة بحقوق خاصة في البترول المصري، رغم عروض كارتر بضمان تلبية احتياجات إسرائيل من الطاقة يقول "بريحنسكي" مستشار الأمن القومي لكارتر: "لقد أعطى السادات في الواقع لكارتر تفويضًا مطلقًا بالنسبة لمفاوضاته التالية مع الإسرائيليين"، وحصلت إسرائيل من واشنطن على ضمان بالحصول على البترول الأمريكي لمدة (15) عامًا مقابل الموافقة على إزالة بعض عقبات التفاوض. أما مصر فتخلت عن موقفها بشأن وضع ترتيبات خاصة في قطاع غزة، والموافقة على اتخاذ إجراء مبكر بشأن تبادل السفراء.
وبذلك تم توقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في احتفال مهيب في واشنطن في (26 من ربيع آخر 1399هـ= 26 مارس 1979م)، وكان جوهر العلاقة يرتكز على انسحاب إسرائيلي إلى الحدود الدولية على مراحل، وهي الحدود التي تفصل فلسطين في عهد الانتداب عن مصر، وذلك مقابل التزامات سياسية مصرية، منها المرور الحر عبر قناة السويس ومضيق تيران الذي اعترفت به مصر ممرًا مائيًا دوليًا، والتزام أطراف المعاهدة بعدم الدخول في أي اتفاق يتعارض مع المعاهدة.
وبذلك أحدثت إسرائيل شرخًا كبيرًا في النظام العربي، توالت بعده الانهيارات. وتحررت إسرائيل من إمكانية الحرب على جبهتين بتحييد مصر، ولم تعد تواجه أي ضغط دولي لحل القضية الفلسطينية. ووجد كارتر أن أهداف إسرائيل تحققت، وهي أن تحصل على سلام منفصل ومدفوعات أمريكية، وحرية التصرف في الضفة الغربية.
وأصر السادات على متابعة التسوية مع إسرائيل دون أي غطاء عربي، والمراهنة الكاملة على الدور الأمريكي في التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة؛ فظهر شعار "مصر أولا"، وثارت تساؤلات حول جدوى الالتزام المصري بالقضايا العربية. وتضخمت التأثيرات السلبية التي نتجت عن مثل هذه الالتزامات المصرية. وصور العرب في الإعلام المصري بصورة بشعة. ودعا بعض المفكرين المصريين إلى أن تتبنى مصر خيار "الحياد" كسياسة رسمية بين العرب وعدوهم. وتشرذم النظام العربي وتناثر لعدم تكامل مقومات الزعامة والقيادة الكلية له.